شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
مسألة:
في رجُلٍ تفقَّه في مذْهبٍ من المذاهب الأربعة وتبصَّر فيه، واشتغلَ بَعدَهُ بالحديث، فرأى أحاديثَ صحيحةً لا يعلمُ لها ناسِخاً ولا خصماً ولا مُعارضاً وذلك المذهبُ مُخالفٌ لها، هل يجوزُ له العملُ بذلكَ المذهبِ، أو يَجِبُ عليه الرجوعُ إلى العملِ بالأحاديثِ ومُخالَفَةِ مذهَبِه ؟
الجواب:
الحمدُ لله، قد ثَبَتَ بالكتابِ، والسنَّةِ، والإجماعِ أنَّ الله سُبحانهُ وتعالى فَرَضَ على الخلقِ طاعَتَهُ وطاعَةَ رسُولِهِ، ولم يُوجِبْ على هذه الأمَّةِ طاعَةَ أحدٍ بِعينهِ في كُلِّ ما يأمُرُ به وينهى عنه، إلا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى الله عليهِ وَسَلَّمَ- حتى كان صدِّيقُ الأمَّةَ وأفضلُها بعد نبيها يقولُ: أطيعوني ما أطعتُ الله، فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم.
واتفقوا كلُّهم على أنه ليسَ أحدٌ معصوماً في كلِّ ما يأمُرُ به وينهى عنه إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال غَيرُ واحدٍ من الأئِمّةِ: كُلُّ أحدٍ من الناسِ يؤخذُ من قولِهِ ويُتركُ، إلا رَسُولَ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّمَ.
وهؤلاءِ الأئِمةُ الأربعةُ -رضي الله عنهُم-، قد نَهَوا الناسَ عن تقليدِهِم في كل ما يقولونَهُ، وذلكَ هو الواجبُ عليهم، فقالَ أبو حنيفَةَ: هذا رأيي فمن جاءَ برأيٍ خيرٍ منه قبلناه، ولهذا لَمَّا احتَجَّ أفضلُ أصْحابِهِ أبو يوسُفَ، أتى مالِكاً فسألهُ عن مسألةِ الصاعِ وصدقةِ الخضراواتِ، ومسألةِ الأجناسِ. فأخبَرَهُ مالكٌ بما يدُلُّ على السنَّةِ في ذلك، فقال: رَجعتُ إلى قولِك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرَجعَ كما رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله.
ومالكٌ كان يقول: إنّما أنا بشرٌ أصيبُ وأخطئ، فاعرِضوا قولي على الكتاب والسنة. أو كلاماً هذا معناه.
والشافعيُّ كان يقول: إذا صَحَّ الحديثُ فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيتَ الحُجَّةَ موضوعةً على الطريق فهي قولي. وفي "مختصر المزني" لما ذكر أنه اختصره من مذهبِ الشافعي لمن أراد معرفةَ مذهبهِ قال: مع إعلامة نهيهِ عن تقليدِهِ وتقليدِ غيرِهِ من العلماء.
والإمامُ أحمدَ كان يقولُ: لا تُقلِّدني ولا تقلِّد مالكاً، ولا الشافعي، ولا الثوري، وتَعَلَّم كما تعلَّمنَا. فكان يقولُ لمن قلَّدهُ: حرامٌ على الرجلِ أن يُقلِّدَ في دِينهِ الرِّجالَ، وقال: لا تقلِّد في دِينكَ الرِّجالَ، فإنهم لن يسلّمُوا من أن يغلَطُوا.
وقد ثبت في الصحيح: عن النبي -صلَّى الله عليهِ وسلمَ- أنه قال: « مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ » ولازِمُ ذلكَ أنَّ من لم يُفقِّههُ الله في الدين لم يُرِدْ به خيرًا فيكونُ التَّفقُّهُ في الدينِ فرضاً. والفقهُ في الدينِ: معرفةُ الأحكامِ الشرعيّةِ بأدِلتِها السمعية، فمن لم يَعرِف ذلكَ لم يكُنْ متفقِّهاً في الدين، لكن من الناسِ من قد يَعجزُ عن معرِفةِ الأدلِّةِ التفصيليِّةِ في جميعِ أمورِهِ، فيسقُطُ عنه ما يعجزُ عن معرفتهِ، لا كل ما يعجزُ عنه من التفقُّهِ، ويلزمُ ما يقدرُ عليهِ، وأمّا القادرُ على الاستدلالِ فقيل: يَحْرُمُ عليه التقليدُ مطلقاً، وقيل: يجوز مطلقاً. وقيل: يجوزُ عند الحاجةِ، كما إذا ضاقَ الوقتُ عن الاستدلال، وهذا القول أعدل.
والاجتهاد ليسَ هو أمرٌ واحدٌ لا يقبل التجزيء والانقسام، بل قد يكونُ الرجلُ مجتهداً في فنٍّ أو بابٍٍ أو مسألةٍ، دونَ فنٍّ وبابٍ ومسألةٍ، وكلُّ أحدٍ فاجتهاده بحسبِ وسعِهِ. فمن نظرَ في مسألةٍ تنازع العلماء فيها ورأى مع أحدِ القولين نصوصاً لم يعلم لها مُعارضاً بعد نَظَرِ مِثلهِ، فهو بين أمرين:
إما أن يتَّبعَ قول القائل الآخر لمجرد كونِه الإمام الذي اشتغلَ على مذهبه، ومثلُ هذا ليس بحجةٍ شرعية، بل مجردُ عادةٍ يعارِضُها عادَةُ غيرهِ اشتغَالَهُ على مذهب إمامٍ آخر.
وإما أن يتَّبع القول الذي تَرَجَّحَ في نظره بالنصوص الدالة عليه. وحينئذٍ فتكونُ موافقتُهُ لإمامٍ يقاوِمُ ذلك الإمامَ وتبقى النصوص سالمةً في حقه عن المعارض بالعمل فهذا هو الذي يَصلُح.
وإنما تَنَزَّلنا هذا التنَزُّل لأنه قد يُقال: إنَّ نَظَرَ هذا قاصِرٌ وليس اجتهادُهُ قائماً في هذه المسألة لِضعفِ آلة الاجتهاد في حقه. أمَّا إذا قَدَرَ على الاجتهادِ التّامِّ الذي يعتقدُ معه أن القول الآخر ليس معَهُ ما يدفَعُ به النص، فهذا يجبُ عليه اتِّباعُ النصوص، وإن لم يفعل كان متبعاً للظن وما تَهوى الأنفُس، وكان من أكبرِ العُصاةِ لله ولرسوله، بخلاف من قد يقول: قد يكونُ للقولِ الآخَرِ حُجَّةٌ راجحةٌ على هذا النص وأنا لا أعلمُها، فهذا يقال له: قد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:« إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » والذي تستطيعُهُ من العلمِ والفقه في هذه المسألة قد دلك على أن هذا القول هو الراجح فعليك أن تتبع ذلك، ثم إن تبين لك فيما بعد أن للنص مُعارضاً راجحاً كان حُكمُكَ في ذلك حُكمُ المجتهد المستقِلِّ، إذا تغير اجتهادُه. وانتِقَالُ الإنسان من قول إلى قول لأجلِ ما تبيّنَ من الحق هو محمود فيه، بِخلافِ إصراره على قولٍ لا حُجَّةَ معه عليه، وتركُ القولِ الذي توضَّحت حُجَّتُهُ، أو الانتقال عن قولٍ إلى قولٍ لِمُجرَّدِ عادةٍ واتِّباعِ هوى، فهذا مذموم.
وإذا كان الإمامُ الْمُقلَّدُ قد سَمِعَ الحديثَ وتركَهُ، لا سيَّما إذا كان قد رواه أيضاً فمِثلُ هذا وحدَهُ لا يكونُ عُذراً في ترك النص، فقد بيّنّا فيما كتبناه في "رَفعِ الملامِ عن الأئِمةِ الأعلام" نحوَ عشرينَ عذراً للأئمةِ في ترك العملِ لبعض الحديث، وبيّنا أنّهم يُعذَرُونَ في التّركِ لتِلكَ الأعذار، وأمَّا نحنُ فمعذورون في تركنا لهذا القول.
فمن ترك الحديثَ لاعتقاده أن ظاهِرَ القرآن يُخالِفُه وأنَّ نصَّ الحديثِ الصحيحِ مقدمٌ على الظواهِرِ، ومقدمٌ على القياسِ والعمل، لم يكن عُذرُ ذلك الرجلِ عُذراً في حقه، فإنَّ ظُهُورَ المدارِكِ الشرعيةِ للأذهانِ وخَفَاءَها عنها أمرٌ لا ينضبطُ طرفاه، لا سيَّما إذا كان التاركُ للحديثِ مُعتقِداً أنه قد ترك العمل به المهاجرون والأنصار، من أهل المدينة النبوية وغيرها، الذين يقالُ إنهم لا يتركون الحديث إلا لاعتقادِهم أنه منسوخ أو مُعارَضٌ براجح، وقد بلَغَ مَنْ بَعْدهُ أنَّ المهاجرين والأنصار لم يتركوه، بل عَمِلَ به طائفةٌ منهُم، أو من سَمِعَهُ منهم ونحو ذلك مما يقدح في هذا المعارِضُ للنص.
وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنتَ أعلمُ أم الإمام الفلاني، كانت هذه معارضةٌ فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالَفَهُ في هذه المسألة من هو نظيرُهُ من الأئمة إلى نسبة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأُبيُّ، ومعاذٍ، ونحوهم من الأئمة وغيرهم، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضُهُم لبعضٍ أكفَاءُ في موارِدِ النِّزاع، وإذا تنازعوا في شيءٍ ردُّوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرَّسول، وإن كان بعضُهُم قد يكون أعلَمُ في مواضع أُخَرَ، فكذلك موارِدُ النِّزاعِ بين الأئمة، وقد ترك الناسُ قولَ عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجُنُب، وأخذوا بقول من هو دونَهُما: كأبي موسى الأشعري، وغيره، لما احتجَّ بالكتاب والسنة، وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية لما كان معه السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هذه وهذه سواء ». وقد كان بعضُ الناس يُناظِرُ ابن عباس في الْمُتعة فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشِكُ أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر، ؟ وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوا بقول عمر، فتبين لهم أن عمر لم يُرِد ما يقولونه، فألَحُّوا عليه فقال لهم: أمرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تتبعوا أم أمرُ عمر ؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلَمُهُم من فوقِ ابن عمر وابن عباس. ولو فُتِحَ هذا الباب لوَجَبَ أن يُعرِضَ عن أمر الله ورسوله، ويبقى كلُّ إمامٍ في أتْبَاعِهِ بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، وهذا تبديل للدين يشبه ما عابَ الله به النصارى في قوله: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }. والله سبحانه أعلم والحمد لله.
نقله لكم
من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(20/210)