وحسن الخاتمة أن يوفق العبد قبل موته للابتعاد عما يغضب الرب - سبحانه -، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة، ومما يدل على هذا المعنى ما صح عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله))، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: ((يوفقه لعمل صالح قبل موته))1.

و"لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني فلا يبقى أحد، فخرجوا، فقعدوا على الباب، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست بوجوه أنس ولا جان، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}2 ثم قُبض - رحمه الله -"3.

وآخر ساعة في حياة الإنسان هي الملخص لما كانت عليه حياته كلها، فمن كان مقيماً على طاعة الله - عز وجل - بدا ذلك عليه في آخر حياته ذكراً، وتسبيحاً، وتهليلاً، وعبادة، وشهادة.

وإليكم هذه الصور لحسن الخاتمة وقعت لأناس نحسب أن الله قد وفقهم لها:

في شهر رمضان الكريم تزداد فرص نيل حسن الخاتمة، وكيف لا وقد اجتمعت على العبد الموفق عدة عبادات؛ فهو مع صومه تراه في ذكر، وقراءة قرآن، وصدقة، وأي عمل من أعمال الخير، وذلك بسبب ما يجده الصائم من رقة القلب، ويحكي الشيخ محمد بقنة الشهراني، في شريط (مشاهد رأيتها من غسل الأموات لسوء الخاتمة وحسن الخاتمة) يقول: "جارتي في الحي الذي أعيش فيه أبوها نحسبه من الصالحين، لا يترك صلاة في المسجد البتة، ابنته في الرابعة والعشرين من عمرها، فرحت بوظيفتها معلمة؛ وإن كان المكان بعيداً عن بيتها، وكانت تذهب هي ومن معها إلى عملهم في عربة يستقلونها بالأجرة، يذهبون سوياً ويرجعون سوياً، وقبل شهر رمضان لعام 1424هـ فاجأت أهلها بكلام كانت تقوله، قالت لهم قبل شهر رمضان: (إذا أنا مت فلا تحزنوا عليّ، فإني أحتسب خرجتي هذه للعمل على الله، فأنا أعلم العلم)، وكانت تخرج متحجبة متسترة من رأسها إلى أخمص قدميها، وقبل موتها طلبت من أبيها أن يأخذها لصلاة الجمعة معه فأخذها، وكان ذلك في منتصف شهر رمضان.

وبعد الجمعة بيومين في يوم الاثنين الخامس عشر من شهر رمضان لعام 1424هـ تخرج من بيتها صائمة، وكان من آخر أعمالها أنها أيقظت إحدى صديقاتها لصلاة الفجر، وكانت تتلو القرآن في العربة التي كانت تستقلها وهي ذاهبة إلى عملها بصوت منخفض، وماتت والقرآن بيدها! حصل الحادث المروع، وماتت وخرجت من الدنيا على هذه الحال الطيبة، ماتت في يوم الاثنين من رمضان، وكانت قد ولدت في يوم الاثنين من رمضان!.

ماتت وقد صلت الفجر، ولم تنم بعد صلاة الفجر بل تتلو القرآن إلى وقت الدوام.

ماتت وقد دعت إلى الله في ذلك اليوم بأن أيقظت صديقتها إلى الصلاة.

ماتت والقرآن بين يديها.

يقول الذين أخرجوها: "والله أنا أخرجناها من العربة ووضعناها في الإسعاف ولم يظهر من جسدها قدر أنملة)، فقد كانت مع تحجبها تلبس السراويل الطويلة تحت لبسها، وتقول: "لو قدر الله لي الموت لا يراني أحد"4.



تزود قريباً من فعالك إنمــــا قرين الفتى في القبر ما كان يفعلُ



وإن كنت مشغولاً بشيء فلا تكن بغير الذي يرضى به الله تشغـلُ



فلن يصحب الإنسان من بعد موته إلى قبره إلا الذي كان يعـملُ



ألا إنما الإنسان ضيـــفٌ لأهله يقيـم قليلاً عندهم ثم يرحـلُ



ويروى أن أحد الصالحين حدث له حادث سير، وبينما هو في سكرات الموت؛ إذا به يقرأ القرآن، ثم يختم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، فيا لله ما أحسنها من خاتمة، ورجل آخر يموت وهو صائم لله رب العالمين، وثالث يموت وهو ساجد لله رب العالمين.

إن كل ما ذكر من حسن الخاتمة لا تحصل للمرء إلا إذا سعى سعيها، وعمل بأسبابها، ومن ذلك:



1- النية الصالحة، والإخلاص لله؛ لأن النية والإخلاص شرطان للأعمال المقبولة.



2- المحافظة على الصلوات جماعة فعن أبي موسى - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلّى البردَين دخل الجنة))5، والبردان: هما الفجر والعصر، ومن داوم عليهما وصلاَّهما فهو بالقِيامِ بِغيرهما من الصّلوات أولى.



3- الإيمان مع الإصلاح للنفس للغير كما قال - تعالى -: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون}6.



4- ومنها تقوى الله في السر والعلن بامتثال أمره، واجتناب نهيه، والدوام على ذلك؛ كما قال - تعالى -: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}7.



5- ومِنها اجتناب الكبائر وعظائم الذنوب قال الله - تبارك وتعالى -: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً}8.



6- ومنها لزوم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واتباع طريق المهاجرين والأنصار والتابعين لهم - رضي الله تعالى عنهم - قال الله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}9، وقال - تعالى -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}10.



7- ومِن الأسباب كذلك البعد عن ظلم الناس، وعدم البغي والعدوان عليهم في نفس، أو مال، أو عرض فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((واتَّق دعوةَ المظلوم؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حِجاب))11.



8- ومن أسباب التوفيق لحسن الخاتمة الإحسان إلى الخلق، وكفِّ الشر عنهم قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِراً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}12.



9- ومن أسباب حسن الخاتمة الدعاء بذلك قال - تعالى -: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}13، ودُعاء المسلم لأخيه المسلم بحسن الخاتمة مستجاب بظهر الغيب، وفي الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل))14.


فاللهم اجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك فيه15.






1 مسند أحمد (11595)، وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر مسند أحمد بتعليق شعيب الأرناؤوط (3/106).



2 سورة القصص (83).



3 الثبات عند الممات لابن الجوزي (1/150).



4 من شريط (مشاهد رأيتها من غسل الأموات لسوء الخاتمة وحسن الخاتمة) الشيخ محمد بقنة الشهراني موقع صيد الفوائد saaid.net/gesah/221.htm



5 رواه البخاري (540)، ومسلم (1005).



6 سورة الأنعام (48).



7 سورة القصص (83).



8 سورة النساء (31).



9 سورة الأحزاب (21).



10 سورة التوبة (100).



11 رواه البخاري (1401)، ومسلم (27).



12 سورة البقرة (274).



13 سورة غافر (60).



14 رواه مسلم (4912).



15 بتصرف وإضافة من موقع إمام المسجد من مقالة بعنوان علامات حسن الخاتمة (http://www.alimam.ws/ref/330).