الدواء النافع في حضور القلب
عندما يشتاق القلب تتغير أحواله، فتزداد ضرباته ويطير فرحًا للقاء حبيبه الغائب .. ولو كان قلبك مُشتاقًا لرمضان حبيبك ولنفحات خيراته، فلن يهدأ إلا بإستقبال هذا الضيف الغالي وستجعل هذه الثلاثين ليلة تستمر طوال عمرك .. فتتعبد الله عز وجل فيها بكل ما أوتيت من قوة وتتقرَّب إليه سبحانه وتعالى في كل لحظة ..
أعلم أن المؤمن لابد أن يكون معظمًا لله عز وجل وخائفًا منه وراجيًا له ومستحييًا من تقصيره، فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه، وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه، فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة.
ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة، فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه. وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمرًا خارجًا أو أمرًا في ذاته باطنًا، أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر، فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه ويتصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سببًا للافتكار، ثم تصير بعض تلك الأفكار سببًا للبعض الآخر.
ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لابد وأن يتفرّق به فكره، وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو يصلي في بيت مظلم أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه وبقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة، ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم سعته قدر السجود ليكون ذلك أجمع للهمم.
والأقوياء منهم كانوا يحضرون المساجد ويغضون البصر ولا يجاوزون به موضع السجود ويرون كمال الصلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم وشمالهم، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يدع في موضع الصلاة مصحفًا ولا سيفًا إلا نزعه ولا كتابًا إلا محاه.
وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب، وغض البصر لا يغنيه، فإن ما وقع في القلب من قبلُ كافٍ للشغل، فهذا طريقه أن يرد النفس قهرًا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يحدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره، قال رسول الله r لعثمان بن طلحة: "إني نسيت أن أقول لك أن تخمر القدْر الذي في البيت، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم" رواه أبو داود في صحيحه، فهذا طريق تسكين الأفكار. فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن، فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق، وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار القلب، ولاشك أنها تعود إلى مهماته، وأنها إنما صارت مهمات لشهواته، فيعاقب بها نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق، فلك ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه ومن جند إبليس عدوِّه، فإمساكه أضر عليه من إخراجه فيتخلص منه بإخراجه، كما روي أنه r لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علَمٌ وصلى بها نزعها بعد صلاته، وقال r: "اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني عن صلاتي وائتوني بأنْبَجَانية أبي جهم" متفق عليه، وأمر رسول الله r بتجديد شراك نعله ثم نظر إليه في صلاته إذ كان جديدًا فأمر أن ينزع منها ويردَّ الشراك الخلق، أخرجه ابن المبارك في الزهد مرسلاً بإسناد صحيح.
فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر فذلك ينفع الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب.
فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي صلاتك في شغل المجاذبة، ومثاله: رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تهوش عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة، فقيل له: إن أردت الخلاص فاقطع الشجرة، فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار، والشغل يطول في دفعها، فإن الذباب كلما ذُبّّ آب، ولأجله سمي ذبابًا، فكذلك الخواطر، وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد.
ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة، فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته.
وهمة الرجل مع قرة عينه، فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة، فهذا هو الدواء ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عُضالاً، حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدّثون أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك، فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوساوس لتكون ممن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخلّ، فبقدر ما يدخل فيه الماء يخرج من الخل لا محالة ولا يجتمعان.
وهذا زمان التفرُّغ لعبادة الله جلَّ وعلا .. ومهما إنشغلت عن عبادته بالدنيا، فستظل فقيرًا مُحتاجًا ولن تشعر أبدًا براحة البال.
مصدر المقال: القواعد الحسان في أسرار الظاعة والاستعداد لرمضان.